في ظل الهيمنة المتصاعدة لأدوات رقمية تتوسع بسرعة فائقة، وتشكّل قوى شبابية جديدة تعيد رسم أحلامها وطموحاتها خارج الأُطر التقليدية، تواجه المجتمعات موجات تحول عميقة بفعل الابتكار التكنولوجي المتسارع. كالتطور السريع في قدرات الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والحوسبة السحابية والأتمتة،والتي تفرض تحولات بالغة التعقيد، تفوق قدرة الهياكل السياسية والاجتماعية التقليدية على الفهم والاستيعاب أو الاستجابة الفاعلة.
تعتمد الحكومات في سياساتها الاجتماعية على مسلّمات مُوروثة من عصر الثورة الصناعية الثالثة، لكنها تقف عاجزة أمام تحديات جديدة تتشكل كموجات تحت السطح، تهدد بإعادة تعريف السياسات والسلطة وحتى نماذج المواطنة.
ما حدث في النيبال والمغرب حاليًا ، وفي مناطق أخرى، هو مؤشرات مبكرة لانطلاق موجات جديدة من التغيير السياسي والاجتماعي. ففي النيبال، إستطاع جيل الشبكات الرقمية أن يسقط حكومة كاملة عبر إحتجاجات شبابية متلاحقة، بينما يشهد المغرب حركة شبابية ناشطة باسم “جيل زد 212″، تقود إحتجاجات سلمية تطالب بإصلاحات جذرية في الصحة والتعليم والعدالة الاجتماعية. وتعكس هذه الحركات وعيًا سياسيًا جديدًا، قائمًا على إستخدام أدوات الاتصال الرقمية، مما يعيد رسم خريطة التحرك الاجتماعي بعيدًا عن الأحزاب والتنظيمات التقليدية، وهي مؤشرات قوية على موجات قادمة من التغيير،قد تعيد تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي،بما يفوق قدرة الهياكل التقليدية على التوجيه أو الاستيعاب.
يمكن تشبيه هذا الواقع بالقارب الذي ينطلق بانسياب، ينعكس على ركابه جمال المناظر المحيطة، بينما يغفلون عن المخاطر والمنعطفات الخطيرة القادمة في مجرى النهر. تعجز الحكومات، بسبب تمسكها بمقاربات وأنماط عصر الصناعات المنتهية، عن رسم خارطة طريق واضحة،أمام تدفق الأحداث وكثافة التغييرات المتسارعة.
ولا يقتصر العجز على مواجهة هذه التحولات أو آثارها، بل يمتد إلى عدم القدرة على رؤيتها بوضوح أو إدراك مخاطرها المستقبلية. تعيش هذه الحكومات في أطر ذهنية وأساليب إدارية تقليدية، ورثتها من زمن الثورة الصناعية الثالثة، ما يجعلها عاجزة عن إستشراف موجات التغيير العميقة، التي تنبعث من داخل المجتمعات، ويزيد من الفجوة بين تطلعات الأجيال الصاعدة، وما توفره مؤسسات السلطة القائمة.
يقود الشباب والفئات الصاعدة هذه الموجات؛ فهم يعيدون تشكيل الواقع الرقمي والتواصل الاجتماعي، بعيدًا عن القيود المجتمعية القديمة، ويشكلون قوة بركانية ترفض البقاء في الهامش.
وبينما يلوح في الأفق هذا الطوفان التكنولوجي، تبقى خطورة الجمود المؤسسي،والافتقار إلى رؤية إستباقية أكبر تهديد لمستقبل المجتمعات. تحتاج الأنظمة السياسية والإدارية لاعتماد استراتيجيات مرنة وتكاملية، تسمح باستغلال دينامية التغيير بدلاً من مقاومتها، وتعزيز الحوار مع الأجيال الجديدة، وإعادة صياغة التشريعات بما يتماشى مع الثورة التقنية المستمرة.
إن التحدي الأكبر هو الحاجة الماسة إلى فهم تأثيرات التطور التكنولوجي على المجتمعات، والتكيف معها في مجالات التعليم، والتكوين والاتصال ومختلف العمليات السياسية، لتفادي بروز مظاهر التطرف والشعبوية التي تشهدها أوروبا حاليًا.
يُعد تمكين الأفراد من إستيعاب هذه التحولات، ودمج التكنولوجيا بشكل متوازن في أنظمة التنشئة الاجتماعية والسياسية، ركيزة أساسية لضمان إنتقال سلس للمجتمعات نحو المستقبل، وتجنب الأزمات الاجتماعية والسياسية المُحفزة بالخوف والشك.
من الواضح أن الموجات القادمة من التغيير الرقمي، لم تعد مجرد تحدٍ تكنولوجي، بل مسألة وجودية تطال جوهر السياسة والثقافة والهوية الاجتماعية، وتؤكد ضرورة إعادة التفكير الجذري في أساليب تنظيم المجتمعات وحوكمتها.