لكلٍّ منا هوية رقمية، تكوّنت على مرّ السنين بتفاعلنا مع مختلف التقنيات والتطبيقات. هذه الهوية لا تقتصر على ما ننشره أو نبحث عنه، بل تمتد لتُحدّد مكان إقامتنا، ووظيفتنا، وما نشتريه، ومن ننتخبه، والرعاية الصحية التي نستحقها بل وأكثر من ذلك بكثير. إنها ليست مجرد أثر رقمي عابر، بل بنية مركبة تُشكّل حياتنا وتُوجّه قراراتنا، وغالبًا دون وعينا الكامل.
إن هويتنا الرقمية تتجاوز مجرد جمع البيانات أو تتبع منشورات مواقع التواصل الاجتماعي. فشركات التكنولوجيا الكبرى تسعى إلى جني الأرباح من أنشطتنا اليومية، عبر جمع بياناتنا من الرسائل النصية، ورسائل البريد الإلكتروني، ومقاطع الفيديو، ومنشورات وسائل التواصل، وسجلات التصويت والمشتريات، وحتى السجلات الصحية. وتُستخدم خوارزميات مُعقّدة في تحليل هذه المجموعات، ليس فقط لفهم سلوكنا، بل لإغرائنا باتخاذ قرارات *تبدو* مستقلة، لكنها في الواقع مُصمّمة بناءً على التلاعب الدقيق.
– ما هي الهوية الرقمية؟
تعرّف الهوية الرقمية بأنها “مجموعة من البيانات الرقمية التي تُمثل الفرد في عالم افتراضي رقمي”. ويمكن أن تشمل هذه الهوية عدة أنشطة — من عمليات البحث وتصفح المواقع، إلى إنشاء المحتوى الرقمي والتفاعل مع التطبيقات مثل “تيك توك” و”يوتيوب”. وهي بطبيعتها مجزأة ومترابطة في آنٍ واحد: فبينما نُكوّنها بأنفسنا، فهي أيضًا عرضة لأنشطة لا نتحكم فيها، غالبًا ما تُمارسها “جهات فاعلة سيئة” — كمجرمي الإنترنت والمتسللين — مما يؤدي إلى ثغرات أمنية وخصوصية، نكتشفها غالبًا بعد فوات الأوان.
من المهم فهم الهويات الرقمية المختلفة التي نمتلكها، وكيفية توليد البيانات المتعلقة بها، ومن يتحكم في الوصول إليها، وكيف يمكن اختراق هذا الوصول. وتختلف هذه الهويات من شخص لآخر، تبعًا لموقعه الجغرافي وأسلوب حياته وإمكانية وصوله إلى التقنيات. أحيانًا تترابط الهويات، وأحيانًا تبقى منفصلة — ويعتمد ذلك على مدى حرصنا على إبقائها كذلك. فالكثيرون يحتفظون بأسماء مستعارة وحسابات متعددة لفصل جوانب مختلفة من حياتهم. وهناك ست هويات أساسية يتم جمعها على مدار حياتنا: الاجتماعية، والمالية، والصحية، والمهنية، والمدنية، والاستهلاكية.
– الهوية الرقمية: أخطر بناء اجتماعي في القرن الحادي والعشرين
تُمثّل هوياتنا الرقمية ، التي غالبًا ما تكون غير مرئية لكنها حاضرة دائمًا ، أهم بناء اجتماعي في القرن الحادي والعشرين. فعلى عكس الذات المادية، المُحدّدة بالجسد والموقع الجغرافي، توجد ذواتنا الرقمية في حالة دائمة من الحضور والغياب، في كل مكان وفي اللامكان في آنٍ واحد.
تُشكّل هذه المفارقة أساس ما يُطلق عليه علماء الاجتماع بشكل متزايد “الأنطولوجيا الرقمية” ، أي طريقة جديدة للوجود تتجاوز الحدود التقليدية للذات. فالآثار الرقمية التي نتركها تاريخنا القابل للبحث، تفاعلاتنا على وسائل التواصل، مشترياتنا الإلكترونية ليست مجرد سجلات لأنشطتنا، بل تُشكّل ذاتًا بديلة موجودة بمعزل عن إدراكنا الواعي أو موافقتنا. إنها ذات نخلقها، لكننا لا نتحكم بها تمامًا.
– التحول الاقتصادي: عندما تصبح الهوية سلعة
يُمثل تحويل الهوية الشخصية إلى بيانات قابلة للتحويل إلى نقود أحد أهم التحولات الاقتصادية في تاريخ البشرية. فالرأسمالية الرقمية تُحوّل الوجود البشري اهتماماته، معتقداته، علاقاته، سلوكياته إلى نقود، باستخدامها للتلاعب بما نستهلكه.
لقد أصبحت ملفاتنا الشخصية الرقمية المورد الأكثر قيمة الذي يمتلكه الكثير منا. وبنى سماسرة البيانات إمبراطورياتهم، ليس عن طريق بيع المنتجات لنا، بل عن طريق بيعنا كمنتجات للمعلنين، والحملات السياسية، وغيرها من الشركات. والخدمات “المجانية” التي تبدو لنا بريئة كشبكات التواصل الاجتماعي، ومحركات البحث ومقدمي خدمات البريد الإلكتروني، تعمل وفق نموذج أعمال يُمثل فيه إهتمامنا ومعلوماتنا الشخصية العملة الحقيقية.
إنها ديناميكية قوة غير متكافئة في جوهرها: فبينما تمتلك الشركات أدوات متطورة لتحليل سلوكنا والتنبؤ به، يجهل معظم الأفراد حتى الآليات الأساسية التي تُجمع بياناتهم وتُستخدم من خلالها.
– الخوارزميات: لا تراقب فقط… بل تُشكّل وتُوجّه
لا تكتفي الخوارزميات التي تُعالج هوياتنا الرقمية بالمراقبة؛ بل تُشكلها وتُحركها وتُقيدها. إنها تُنشئ ما يُطلق عليه المُنظرون الاجتماعيون “هياكل الاختيار” ، وهي أنظمة تُرشدنا نحو قرارات مُعينة، بينما تُحجب البدائل. لا تتنبأ هذه الأنظمة بما قد نفعله فحسب، بل تؤثر بشكل فعال على ما سنفعله.
فكّر في كيفية تحديد خوارزميات التوصيات للأخبار التي نستهلكها، والمنتجات التي نشاهدها، والترفيه الذي نستمتع به، وحتى من قد نواعد. تُنشئ هذه الأنظمة نماذج تجزئة تُضيّق تدريجيًا نطاق تجربتنا وتُعزز المعتقدات والسلوكيات القائمة. ويتجاوز هذا التنظيم الرقمي لذواتنا الافتراضية الخيارات الفردية إلى ديناميكيات اجتماعية أوسع، مما قد يُعزز الانقسامات المجتمعية وعدم المساواة.
وبينما قد نعتقد أننا نتصرف باستقلالية، فإن الواقع أكثر تعقيدًا بكثير. غالبًا ما تكون خياراتنا الظاهرة مُحددة مسبقًا من خلال هياكل خفية مُصممة لتعظيم التفاعل والاستهلاك وتوليد البيانات. ما يبدو اكتشافًا غالبًا ما يكون عرضًا مُدبّرًا بعناية.
– هوية المستهلك في العصر الرقمي: بين الهندسة النفسية والفخاخ الخوارزمية
مع تزاوج الثقافة الاستهلاكية وتطور تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، صار كل تفاعل من زيارة متجر إلكتروني، إلى تفضيل منتج، أو حتى وضع “إعجاب” على محتوى إعلاني ، جزءًا من ملف رقمي متجدد يعكس ويستبق سلوك المستهلك.
تقوم شركات التقنية الكبرى والمتاجر الرقمية بتوظيف خوارزميات قوية لجمع بيانات دقيقة عن تفضيلاتنا، وتتبع عادات الشراء، والوقت والمكان الذي تتم فيه، والظروف النفسية المرتبطة باتخاذ القرار الشرائي. وتُستخدم هذه البيانات في إنشاء ملفات تعريفية استهلاكية تهدف لتخصيص الإعلانات والعروض والمنتجات حسب شخصية وسلوك كل فرد لتبدو اختياراته طبيعية، بينما هي مصممة بدقة لدفعه للاستهلاك والشراء أكثر.
وهكذا، لم تعد السلوكيات الاستهلاكية مجرد قرارات فردية، بل هي نتاج هندسة رقمية قائمة على الاستهداف والتأثير الخفي، ومضاعفة الرغبة عبر تقنيات الإقناع السيكولوجي والتأثير المجتمعي.
عمارة الاختيار: تصميم يخدع العقل
تكشف “عمارة الاختيار” وهي طريقة عرض المنتجات على منصات التجارة الإلكترونية، وتصميم واجهات المستخدم — كيف يتم ضبطها لاستغلال الانحيازات النفسية، وتحفيز السلوك الآني والعاطفي للمستهلكين. وتكمن الخطورة في الاعتماد على بيانات نمطية أو تحيزات تاريخية في تشكيل التوصيات، مما يرسخ أنماط استهلاكية محددة، ويؤدي إلى تضييق الخيارات المعرفية ضمن “فقاعات استهلاكية” لا يخرج منها الفرد إلا نادرًا.
دور المؤثرين: عندما يذوب الحد بين التوصية والإعلان
يضطلع المؤثرون الرقميون ومنصات التواصل الاجتماعي بدور محوري في صناعة الرغبات الاستهلاكية، حيث يتحول الإعلان إلى تفاعل إجتماعي تلقائي، ويذوب الحد الفاصل بين التوصية الشخصية والدعاية التجارية، مع غياب الشفافية حول دوافع هذا التأثير. والشريحة العمرية الشابة هي الأكثر تأثراً، إذ تعتبر الهوية الاستهلاكية جزءًا من تصوير الذات، وبناء المكانة والقبول في الدوائر الاجتماعية.
-العرق وسوء التمييز: عندما تكرّس الخوارزميات الظلم
في عالم الهوية الرقمية، أصبح سوء التمييز العرقي قضية مُلحة. فغالبًا ما تُعيد الخوارزميات المُكلَّفة بتحديد هوية الأشخاص أو تصنيفهم أو تمثيلهم، إنتاج نفس التحيزات العرقية المُتجذِّرة في المجتمع. لا تعمل هذه الأنظمة في فراغ، بل تُدرَّب على بيانات مُستقاة من العالم كما هو، وليس كما ينبغي أن يكون. ونتيجةً لذلك، غالبًا ما تعكس وتُضخِّم أوجه عدم المساواة وهياكل السلطة في الثقافات التي تُنتِجها.
يؤثر التحيز العنصري أيضًا على كيفية إدارة المنصات الرقمية للمحتوى، وعرض نتائج البحث، وتنظيم ظهوره. غالبًا ما تُتخذ قرارات الإشراف بواسطة خوارزميات غامضة أو مشرفين خارجيين ذوي سياق ثقافي محدود. والنتيجة هي نظام يعاقب الخطاب والنشاط العنصري، ويتجاهل أو حتى يروج للروايات السائدة.
وبهذه الطريقة، يواجه المستخدمون ذوو التوجهات العنصرية مأزقًا مزدوجًا: يخضعون للمراقبة المفرطة ويفتقرون إلى الحماية الكافية. وهي تعكس كيف تُعطي محركات البحث التجارية الأولوية للربح والاهتمام، والمعايير السائدة على الدقة أو الإنصاف. وعندما يُصفّى العرق من خلال منطق خوارزمي مبني على التفاعل وإيرادات الإعلانات، غالبًا ما تكون النتيجة تشويهًا ومحوًا.
ولا يقتصر سوء التمييز على التمثيل السلبي، بل يتعلق أحيانًا بإخفاء الهوية تمامًا. فأنظمة التعرّف على الوجوه المُدرّبة على مجموعات بيانات ذوي البشرة الفاتحة قد تفشل في التعرّف على الوجوه ذات البشرة الداكنة. وقد لا تُقدّم النماذج والتطبيقات الإلكترونية فئات عرقية أو إثنية مناسبة.
معالجة هذا التمييز تتطلب أكثر من مجرد تحسين بيانات التدريب ، بل تتطلب إعادة النظر في القيم والمؤسسات والأولويات التي تُشكل الأنظمة الرقمية. من يُطوّر هذه التقنيات؟ من يُموّلها؟ من تُعطى الأولوية لسلامتهم وظهورهم؟ ومن تُعتبر هوياتهم “مُعقّدة” أو “مُسيّسة” أو “فوضوية” بحيث لا يُمكن تصنيفها بدقة؟
– الإلغاء الرقمي والتشهير: أدوات العقاب الجماعي في العصر الرقمي
الإلغاء الرقمي: سحب الشرعية كعقاب جماعي
تعتبر تقنية “الإلغاء” Canceling في جوهرها إعلانًا جماعيًا عن سحب الدعم والشرعية الرقمية لشخص أو جهة، وغالبًا ما تترافق مع الدعوة لمقاطعة اجتماعية ومهنية، وحتى أسرية عبر المنصات الرقمية. وتشكل حملات الإلغاء أحيانًا حول كشف معلومات خاصة، أو إعادة تداول مواقف قديمة، أو زلات لفظية تم إخراجها من سياقها، ثم توسيع المشاركة الجماهيرية عبر إعادة النشر والتعليق.
في حالات عديدة، تبدأ هذه الحملات كصرخة لمساءلة شخص حول موقف أو سلوك أخلاقي أو سياسي، لكنها تتحول سريعًا إلى شكل بالغ التطرف من المحو الرمزي والمهني والاجتماعي.
التشهير الرقمي: نشر المعلومات كسلاح
أما “التشهير”، فهو نشر معلومات خاصة أسماء، عناوين، أماكن عمل، صور عائلية وتحويلها إلى أداة ضغط أو إدانة اجتماعية. وقد تتفاوت دوافع التشهير بين “رغبة في تحقيق العدالة” في قضايا حساسة، إلى الرغبة في الانتقام أو استعراض الولاء للجماعة عبر مهاجمة المختلفين.
ومن المهم التفريق بين:
– التشهير الجماعي المنظم، الذي يحركه قادة رأي أو مؤثرون ،كما في حالة مطاردات المشاهير والسياسيين،
– الحملات الشعبية التي يشارك فيها المستخدمون العاديون بدافع الانفعال والتقليد والرغبة في الانتماء، حتى وإن كان ضررهم أكبر من نفعهم أحيانًا.
قد تتجاوز عقوبة الإلغاء فقدان الوظيفة أو الأصدقاء أو الفرص، لتصل إلى فقدان الإحساس بالأمان النفسي، والمساس بكرامة الفرد الاجتماعية، إلى جانب مخاطر اضطرابات القلق والاكتئاب والشعور بالعزلة التامة. بل أكثر من ذلك، كثير من ضحايا التشهير يواجهون صعوبة في إعادة بناء حياتهم الرقمية أو المهنية، بسبب استدامة الأثر الرقمي، وصعوبة محو المحتوى المسيء أو نتائج البحث في الإنترنت.
– جماعية التشهير: عندما يصبح العقاب وسيلة للانتماء
يكشف دور ديناميكيات القطيع الرقمي أن الانخراط في حملات الإلغاء أصبح وسيلة للانتماء لجماعة أو لنيل القبول من قائد رأي، أكثر منه سعيًا لتحقيق “عدالة” حقيقية. وهنا تتجلى مخاطر غياب التحقق والمعايير الأخلاقية، إذ يكفي في كثير من الأحيان إشاعة واحدة أو مقطع مجتزأ ليبرر طرد فرد من المنصة أو من المجتمع الافتراضي.
وتكشف حالات تسخير التشهير الرقمي أنها ليست دائمًا موجهة لأهداف نبيلة ، كفضح التمييز أو السلوك العنصري ، بل قد تزحف إلى حدود الاستخدام الموجه، وتحوله إلى محكمة شعبية تفتقد لمعايير الموضوعية والإنصاف.
لم يعد الإلغاء والتشهير مجرد ترندات عابرة، بل صارا أدوات مركزية لإدارة الخلافات، وفرض القيم والحدود السلوكية في المجتمعات الرقمية. وهو ما يدعو إلى وعي نقدي بنوايا ودوافع المشاركة، وتطوير لغة جديدة توازن بين المحاسبة الرقمية وحق الفرد في إعادة بناء الهوية، والحد من النزعة العقابية والإقصائية التي تزداد حدة بفعل سرعة الانتشار وسيولة المعلومات.
من المهم أن نحمي أنفسنا من التورط في ديناميكيات النبذ الجماعي، وأن نتذكر أن هوية الفرد الرقمية دائمًا قيد التشكل وليست حكماً نهائياً عليه، وأن الإنسان في جوهره أكبر من أسوأ أخطائه أو لحظاته. وأن المشاركة النقدية والواعية والأسس الأخلاقية يجب أن تقود الفعل الرقمي في عصر الذكاء والرقمنة الاجتماعية الشاملة.
– المراقبة الحكومية: عندما تتحول الهوية المدنية إلى تهديد
يشمل مفهوم الرقابة مراقبة سلوك الأفراد وأنشطتهم وحفظ بياناتهم بهدف التأثير والإدارة والحماية. لكن هذه الأدوات ليست فقط للحماية، بل كثيرًا ما تُستخدم في التحكم والسيطرة على السكان، وإخماد الأصوات المعارضة، خاصة في الأنظمة الاستبدادية.
تجاوزت التقنية المراقبة بالكاميرات إلى إختراق الهواتف والحواسيب وحتى المنازل، مما يشيع شعورًا دائمًا بالمراقبة يحد من حرية التعبير ويخلق ثقافة الخوف والرقابة الذاتية.
يمكن الإشارة إلى حالات مثل:
– برنامج PRISM الأميركي الذي كشفه إدوارد سنودن،
– البرنامج المراقبة الصيني الشامل،
– استخدام برمجيات تجسس مثل Pegasus ضد نشطاء في دول مختلفة،بما في ذلك سوريا، إثيوبيا، والمغرب،
وهذه السياسات ليست محصورة في الدول الاستبدادية، فحتى الدول الديمقراطية الكبرى ،شهدت قيودًا على حرية التعبير أو استخدام تقنيات المراقبة تحت ذريعة الأمن القومي.
في سياقات سياسية قد تسبب المراقبة الحكومية والتدخلات الرقمية، ضررًا عميقًا على الهوية المدنية، إذ تؤثر على الطريقة التي يعبر بها الناس عن آرائهم، ويشاركون في الحياة المدنية، ويقررون المشاركة السياسية. يخلق هذا الوضع انسحابًا من الأنشطة المدنية خشية التعرض للملاحقة أو العقاب، مما يهدد الديمقراطية أساسًا.
– نحو تقرير المصير الرقمي
على الرغم من أن المساحات الرقمية تُبشّر بالحياد وسهولة الوصول والمساواة، فإن الواقع أكثر تعقيدًا بكثير. فالتسلسلات الهرمية الاجتماعية القائمة على العرق والجنس والطبقة والإعاقة وغيرها من الهويات المتقاطعة، لا تُمحى في السياقات الرقمية؛ بل غالبًا ما تُضخّم ويساء توظيفها. ولذلك، فإن فهم الهوية الرقمية دون مراعاة التقاطعية ليس فهماً ناقصًا فحسب، بل مضلّلًا أيضًا.
في عام 1989، صاغت كيمبرلي كرينشو مصطلح “التقاطعية”، لوصف كيف تؤثر أنظمة القمع المتداخلة على حياة الناس بطرقٍ مُعقّدة ومُركّبة. وفي عالم الهوية الرقمية، يعني هذا الاعتراف بكيفية إعادة إنتاج أوجه عدم المساواة الهيكلية من خلال الخوارزميات والمنصات وقرارات السياسات.
ومن خلال فهم كيفية تشكل هوياتنا المتعددة، يمكننا البدء في إدارة الهوية الرقمية واستعادة السيطرة على القرارات التي نتخذها. ومن الضروري فهم الأنظمة الرقمية التي نتفاعل معها يوميًا، لأنه من خلال هذا الفهم، سنبدأ باتخاذ الخطوات الأولى نحو بناء هوية رقمية اجتماعيًا تُمثّلنا بشروط عادلة وإنسانية وشفافة.
إن ذاتنا الرقمية ليست مجرد أداة تكنولوجية؛ إنها امتداد عضوي لنا. ومن خلال التعامل مع الهوية الرقمية من خلال عدسة العلوم الاجتماعية، يمكننا أن نتجاوز المناقشات الفنية المتعلقة بالأمن السيبراني والخوارزميات، لمعالجة الأسئلة الأساسية المتعلقة بالوكالة، والمساواة، وازدهار البشر في العصر الرقمي.
– الخوارزميات المتحيزة: عندما تهدد الحياة
أظهرت الأنظمة الخوارزمية وخاصةً تلك المستخدمة في التعرف على الوجوه، والشرطة التنبؤية، والتوظيف، وتسجيل الائتمان أنماطًا واضحة من التحيز ضد الفئات المهمشة. والأمر ليس خللًا بسيطًا؛ بل قد يكون فشلًا منهجيًا يؤدي إلى اعتقالات غير قانونية، والاستبعاد من الخدمات الرقمية، وحتى نتائج تهدد الحياة.
عندما تُساء قراءة الهويات الرقمية أو تُصنّف بشكلٍ خاطئ أو تُخفى، فإن العواقب ليست مجردة. إنها مُعاشة ومُجسّدة وظالمةٌ للغاية.
غالبًا ما تُشفّر المنصات التي تبدو شاملة ظاهريًا الاستبعاد في تصميمها. فأنظمة الإشراف على وسائل التواصل الاجتماعي تُسكت بشكل غير متناسب أصوات الفئات المُضطهدة تاريخيًا تحت ستار فرض “معايير المجتمع”.
وفي الوقت نفسه، يُمكن لتصنيف المحتوى الخوارزمي أن يُخفي المنشورات المتعلقة بمطالب ثقافية أو سياسية، أو الحركات المناهضة للعنصرية، مما يُصعّب على المستخدمين المهمّشين الوصول إلى جمهور أوسع. بل إن الأدوات التي تُعدّ بالتواصل والظهور نفسها يُمكن أن تُديم المحو.
– التدقيق الرقمي: خط دفاع استباقي
نظرًا للتطورات التكنولوجية السريعة وتزايد تهديدات الأمن السيبراني، يُعدّ إجراء عمليات تدقيق رقمية منتظمة أمرًا بالغ الأهمية للحفاظ على هوية رقمية قابلة للدفاع عنها. تُعدّ عمليات التدقيق هذه أداةً أساسيةً لتحديد نقاط الضعف، وتقييم فعالية التدابير الأمنية الحالية، وضمان الامتثال للوائح المتطورة.
فبدون تقييمات منهجية، قد يُفصح الأفراد عن معلوماتهم الشخصية دون قصد، مما يُعرّضهم لخطر اختراق البيانات والهجمات الإلكترونية. وكما أشارت الدراسات الحديثة، فإن انتشار الجرائم الإلكترونية ضد الجهات الحكومية والمحلية يُؤكد ضرورة وضع استراتيجيات فعّالة للتأهب السيبراني.
ومن خلال إجراء عمليات تدقيق مُنتظمة، يُمكننا الكشف عن الوصول غير المُصرّح به أو الأنشطة المشبوهة، مما يُعزز ثقافة اليقظة والمساءلة. وفي نهاية المطاف، فإن الإدارة الاستباقية لوجودنا على الإنترنت لا تحمي البيانات الفردية فحسب، بل تُساهم أيضًا في بيئة رقمية أكثر أمانًا للمجتمع الأوسع.
-الشباب والبصمة الرقمية والحاجة إلى التربية الرقمية
في الوقت الذي إكتسبت فيه وسائل التواصل الاجتماعي دورًا محوريًا في تشكيل الهوية الشخصية، فإن فئة الشباب تقلل من شأن استمرارية المحتوى على الإنترنت، وتأثيره طويل المدى على سمعتهم وفرص عملهم وسلامتهم النفسية.
إن الشباب معرضون بشدة لخطر الإضرار بسمعتهم، نتيجةً لسلوكهم الإلكتروني المتهور أو غير المدروس، مما يجعل من الضروري تخصيص حملات إعلامية مكثفة، لتنمية المسؤولية الرقمية منذ الصغر.
ويمكن أن تمتد عواقب البصمة الرقمية السيئة الإدارة إلى ما وراء الحدود الوطنية، حيث يواجه حتى الأفراد صعوبات في الخارج بمجرد إنتشار معلومات رقمية غير دقيقة ومشاركتها. وتُبرز هذه النتائج مجتمعةً حاجة المستخدمين الشباب إلى التحكم في حضورهم الإلكتروني، والتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي كمساحة عامة، والانخراط في عملية تقييم ذاتي رقمية استباقية.
– تجديد الوعي… مسؤولية جماعية لمستقبل رقمي عادل
في ظل تزايد الاعتماد على الفضاء الرقمي في حياتنا اليومية، تبرز مخاطر فقدان السيطرة على البيانات الرقمية وتراكمها دون وعي كأحد أخطر تحديات العصر الرقمي. إن تزايد قدرة الأطراف الخارجية، لا سيما الشركات الكبرى على الوصول السهل إلى بياناتنا الشخصية، يفتح الباب أمام تهديدات متعددة، منها السيطرة على هويتنا الرقمية.
وهذا التحكم الشامل لا يقتصر فقط على القرارات التي تخص الأفراد وحدهم، بل يمتد ليشمل قرارات حاسمة تمس أمن المجتمعات والدول بأكملها.
لبناء مستقبل رقمي عادل، يجب أن نُركز على أولئك الذين غالبًا ما يُهمّشون في أنظمة اليوم. وهذا لا يعني فقط تنويع فرق التكنولوجيا أو إصلاح الخوارزميات المتحيزة، بل إعادة التفكير جذريًا في كيفية تعريفنا للهوية الرقمية وبنائها وإدارتها:من يُصبح واضحًا؟ من يحظى بالحماية؟ من يُعاقب تلقائيًا؟
هذه ليست أسئلة تكنولوجية فحسب؛ بل هي أسئلة اجتماعية وأخلاقية وسياسية.
وإذا فشلنا في الإجابة عليها بعناية، فإننا نخاطر بإعادة إنتاج أوجه عدم المساواة ذاتها التي تدّعي التقنيات الرقمية التغلب عليها.
إن درء هذه المخاطر وحماية الهوية الرقمية، مسؤولية جماعية وضرورة ملحة، لضمان إستقرارنا الشخصي والاجتماعي والسياسي.